فصل: باب الإيجَازِ فِي الصَّلاةِ وَإِكْمَالِهَا

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب إِمَامَةِ الْمَفْتُونِ وَالْمُبْتَدِعِ

وَقَالَ الْحَسَنُ‏:‏ صَلِّ وَعَلَيْهِ بِدْعَتُهُ‏.‏

- فيه‏:‏ عُبَيْدِاللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الخِيَارٍ‏:‏ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ، وَهُوَ مَحْصُورٌ، فَقَالَ‏:‏ إِنَّكَ إِمَامُ عَامَّةٍ، وَنَزَلَ بِكَ مَا نَرَى، وَيُصَلِّي لَنَا إِمَامُ فِتْنَةٍ، وَنَتَحَرَّجُ، فَقَالَ‏:‏ الصَّلاةُ أَحْسَنُ مَا يَعْمَلُ للنَّاسُ، فَإِذَا أَحْسَنَ النَّاسُ فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ، وَإِن أَسَاءُوا، فَاجْتَنِبْ إِسَاءَتَهُمْ‏.‏

وقال الزُّهْرِيُّ‏:‏ لا نَرَى أَنْ يُصَلَّى خَلْفَ الْمُخَنَّثِ إِلا مِنْ ضَرُورَةٍ لابُدَّ مِنْهَا‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَسَ قَالَ‏:‏ قال النَّبِيُّ عليه السلام، لأبِي ذَرٍّ‏:‏ ‏(‏اسْمَعْ وَأَطِعْ، وَلَوْ لِحَبَشِيٍّ، كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى تأويل قوله‏:‏ ‏(‏ويصلى لنا إمام فتنة‏)‏، فقال ابن وضاح‏:‏ إمام الفتنى عبد الرحمن بن عديس البلوى، هو الذى أجلب على عثمان بأهل مصر، وروى ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن عمرو المعافرى أنه سمع أبا ثور الفهمى أنه رأى ابن عديس صلى لأهل المدينة الجمعة وطلع منبر الرسول فخطب‏.‏

والقول الثانى‏:‏ قال أبو جعفر الداودى‏:‏ معنى قوله‏:‏ ‏(‏يصلى لنا إمام فتنة‏)‏، أن غير إمامهم يصلى لهم فى حين فتنة، ليس أن ذلك الإمام يدعو إلى فتنة ويسعى فيها ويدل على ذلك قول عثمان‏:‏ ‏(‏الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم‏)‏، ولم يذكر الذى أمهم بمكروه، وذكر أن فعله من أحسن الأعمال، وحذره من الدخول فى الفتنة‏.‏

وقال غيره‏:‏ والدليل على صحة هذا التأويل أنه قد صلى بالناس فى حصار عثمان جماعة من الفضلاء منهم‏:‏ أبو أيوب، وسهل بن حنيف، وابنه أبو أمامة، ذكره عمر بن شبة بإسناد عن هشام بن عروة، عن أبيه قال‏:‏ صلى بالناس يوم الجمعة سهل بن حنيف‏.‏

قال عمر بن شبة‏:‏ حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا يوسف بن الماجشون، قال‏:‏ أخبرنا عقبة بن مسلم المزنى أن آخر خرجة عثمان يوم الجمعة، وعليه حلة حمراء مصفرًا رأسه ولحيته بورس، فما خلص إلى المنبر حتى ظن أن لن يخلص، فلما استوى عليه حصبه الناس، فقام رجل من بنى غفار، فقال‏:‏ والله لنغربنك إلى جبل الدخان، فلما نزل حيل بينه وبين الصلاة، وصلى بالناس أبو أمامة بن سهل بن حنيف‏.‏

فقال عمر بن شبة‏:‏ وحدثنا محمد بن جعفر، حدثنا معمر، عن الزهرى، عن عروة، عن عبيد الله بن عدى بن خيار، قال‏:‏ دخلت على عثمان وهو محصور، وعلىّ يصلى بالناس فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين، إنى أتحرج الصلاة مع هؤلاء وأنت الإمام، فقال‏:‏ إن الصلاة أحسن ما عمل به‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

وقال جويرية‏:‏ عن نافع، لما كان يوم النحر جاء علىّ، فصلى بالناس وعثمان محصور، وقال الزهرى‏:‏ صلى سهل بن حنيف، وعثمان محصور، وصلى يوم العيد على بن أبى طالب، وقال الحلوانى‏:‏ حدثنا المسيب بن واضح، قال‏:‏ سمعت ابن المبارك يقول‏:‏ ما صلى علىّ بالناس حين حوصر عثمان إلا صلاة العيد وحدها‏.‏

قال يحيى بن آدم‏:‏ ولعلهم قد صلى بهم رجل بعد رجل، قال الداودى‏:‏ لم يكن فى القائمين على عثمان أحد من الصحابة إنما كانت فرقتان‏:‏ فرقة مصرية، وفرقة كوفية، فلم يعتبوا عليه شيئًا إلا خرج منه بريئًا، فطالبوه بعزل من استعمل من بنى أمية فلم يستطع ذلك وهو على تلك الحالة، ولم يخل بينهم وبينهم لئلا يتجاوزوا فيهم القصد، وصبر واحتسب‏.‏

وروى عنه أنه رأى النبى، عليه السلام، تلك الليلة فى المنام، فقال له‏:‏ ‏(‏قد قمصك الله قميصًا، فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه‏)‏، يعنى الخلافة، وكان قد أخبر عليه السلام أنه يموت شهيدًا على بلوى تصيبه، فلذلك لم ينخلع من الخلافة، وأخذ بالشدة على نفسه طلبًا لعظيم الأجر، ولينال الشهادة التى بشره الرسول بها‏.‏

قال الداودى‏:‏ فلما طال الأمر صلى أبو أيوب الأنصارى بالناس مُدَّة؛ لأن الأنصار لم يكن منهم أحد يدعى الخلافة، ثم كفَّ أبو أيوب وصلى أبو أمامة بن سهل بن حنيف، وصلى بهم صلاة العيد على بن أبى طالب؛ لأنه لا يقيم الجمع والأعياد إلا الأئمة ومن يستحق الإمامة، وفعل ذلك علىّ لئلا تضاع سنة ببلد الرسول‏.‏

ففى هذا من الفقه‏:‏ المحافظة على إقامة الصلوات، والحض على شهود الجمعات فى زمن الفتنة؛ خشية انخراق الأمر وافتراق الكلمة وتأكيد الشتات والبغضة، وهذا خلاف قول بعض الكوفيين أن الجمعة بغير والٍ لا تجزئ‏.‏

وقال محمد بن الحسن‏:‏ لو أن أهل مصر مات واليهم جاز لهم أن يقدموا رجلاً منهم فيصلى بهم حتى يقدم عليهم والٍ‏.‏

وقال مالك، والأوزاعى، والشافعى‏:‏ تجوز الجمعة بغير سلطان كسائر الصلوات، قال مالك‏:‏ إن لله فرائض لا ينقصها أن وليها والٍ أو لم يلها، منها الجمعة‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ فى صلاة علىّ العيد بالناس وعثمان محصور‏:‏ هذا أصل فى كل سبب يُخلف الإمام عن الحضور أن على المسلمين إقامة رجل يقوم به، وهذا كما فعل المسلمون يوم مؤتة، لما قتل الأمراء اجتمعوا على خالد بن الوليد، وأيضًا فإن المتغلب والخارج على الإمام تجوز الجمعة خلفه، فمن كان فى طاعة الإمام أحرى بجوازها خلفه‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه أن الصلاة وراء من تكره الصلاة خلفه أولى من تفرق الجماعة؛ لقول عثمان‏:‏ فإذا أحسنوا فأحسن معهم، فغلب الإحسان فى جماعتهم على الإحسان فى التورع عن الصلاة فى زمن الفتنة منفردًا، وأما الإساءة التى أمرنا باجتنابها، فهى المعاصى التى لا يلزم أحدًا فيها طاعة مخلوق، فإذا غلب عليها كان له أن يأخذ بالرخصة أو يأخذ بالشدة، فلا يجيب إليها، وإن كان فى ذلك إتلافه‏.‏

واختلف العلماء فى الصلاة خلف الخوارج وأهل البدع، فأجازت طائفة الصلاة خلفهم، روى عن ابن عمر أنه صلى خلف الحجاج وصلى خلفه ابن أبى ليلى، وسعيد ابن جبير، وخرج عليه، وقال الحسن‏:‏ لا يضر المؤمن صلاته خلف المنافق، ولا تنفع المنافق صلاة المؤمن خلفه‏.‏

وقال النخعى‏:‏ كانوا يصلون وراء الأمراء ما كانوا وكان أبو وائل يجمع مع المختار‏.‏

وقال جعفر بن برقان‏:‏ سألت ميمون بن مهران عن الصلاة خلف رجل يذكر أنه من الخوارج فقال‏:‏ أنت لا تصلى له إنما تصلى لله، قد كنا نصلى خلف الحجاج، وكان حروريًا أزرقيًا، وأجاز الشافعى الصلاة خلف من أقام الصلاة، وإن كان غير محمود فى دينه‏.‏

وكرهت طائفة الصلاة خلفهم، وروى أشهب عن مالك قال‏:‏ لا أحب الصلاة خلف الإباضية، والواصلية، ولا السكنى معهم فى بلد‏.‏

وقال عنه ابن نافع‏:‏ وإن كان المسجد إمامه قدريًا، فلا بأس أن يتقدمه إلى غيره‏.‏

قال ابن القاسم‏:‏ رأيت مالكًا إذا قيل له فى إعادة الصلاة خلف أهل البدع توقف ولا يجيب‏.‏

قال ابن القاسم‏:‏ وأرى عليه الإعادة فى الوقت‏.‏

وقال أصبغ‏:‏ يعيد أبدًا، قال ابن وضاح‏:‏ قلت لسحنون‏:‏ ابن القاسم يرى الإعادة فى الوقت، وأصبغ يقول‏:‏ يعيد أبدًا، فما تقول أنت‏؟‏ قال‏:‏ لقد جاء الذى رأى عليه الإعادة أبدًا ببدعة أشد من صاحب البدعة، قال سحنون‏:‏ وإنما لم تجب عليه الإعادة؛ لأن صلاته لنفسه جائزة، وليس بمنزلة النصرانى؛ لأن صلاة النصرانى لنفسه لا تجوز‏.‏

وقال الثورى فى القدرى‏:‏ لا تقدموه، وقال أحمد‏:‏ لا تصل خلف أحد من أهل الأهواء إذا كان داعيًا إلى هواه، ومن صلى خلف الجهمى والرافضى يعيد، وكذلك القدرى إذا ردَّ الأحاديث، قال غيره‏:‏ وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏اسمع وأطع‏)‏ يدل على أن طاعة المتغلب واجبة؛ لأنه لما قال‏:‏ ‏(‏حبشى‏)‏، وقد قال‏:‏ ‏(‏الخلافة فى قريش‏)‏، دل أن الحبشى إنما يكون متغلبًا، والفقهاء مجمعون على أن طاعة المتغلب واجبة ما أقام على الجمعات والأعياد والجهاد وأنصف المظلوم فى الأغلب، فإن طاعته خير من الخروج عليه؛ لما فى ذلك من تسكين الدهماء وحقن الدماء، فضرب عليه السلام، المثل بالحبشى إذ هو غاية فى الذم، وإذْ أمر بطاعته لم يمنع من الصلاة خلفه، فكذلك المذموم ببدعة أو فسق‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله‏:‏ اسمع وأطع لحبشى، يريد فى المعروف لا فى المعاصى، فتسمع له وتطيع فى الحق، وتعفو عما يرتكب فى نفسه من المعاصى ما لم يأمر بنقض شريعة، ولا بهتك حرمة لله تعالى، فإذا فعل ذلك فعلى الناس الإنكار عليه بقدر الاستطاعة، فإن لم يستطيعوا لزموا بيوتهم أو خرجوا من البلدة إلى موضع الحق إن كان موجودًا‏.‏

وأما قول الزهرى‏:‏ لا نصلى خلف المخنث إلا من ضرورة، فوجه ذلك أن الإمامة عند جميع العلماء موضع للكمال واختيار أهل الفضل، والمخنث مشبه بالنساء، فهو ناقص عن رتبة من يستحق الإمامة‏.‏

وإنما ذكر البخارى هذه المسألة فى هذا الباب، والله أعلم؛ لأن المخنث مفتتن فى تشبهه بالنساء، كما أن إمام الفتنة والمبتدع كل واحد منهم مفتون فى طريقته فلما شملهم معنى الفتنة شملهم الحكم، فكرهنا إمامتهم إلا من ضرورة‏.‏

باب مَنْ يَقُومُ عَنْ يَمِينِ الإمَامِ بِحِذَائِهِ سَوَاءً إِذَا كَانَا اثْنَيْنِ

- فيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏(‏بِتُّ عند خَالَتِي مَيْمُونَةَ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ الْعِشَاءَ، ثُمَّ جَاءَ فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ، فَجِئْتُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَصَلَّى خَمْسَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ نَامَ حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ، أَوْ قَالَ‏:‏ خَطِيطَهُ، ثُمَّ قام إِلَى الصَّلاةِ‏)‏‏.‏

وترجم له‏:‏ باب ‏(‏إذا قام عن يسار الإمام فحوله إلى يمينه لم تفسد صلاته‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى الإمام إذا أم واحدًا، أين يقيمه‏؟‏ فقالت طائفة‏:‏ يقيمه عن يمينه، روى ذلك عن عمر بن الخطاب، وابن عمر، وعروة بن الزبير، وهو قول مالك، والثورى، والأوزاعى، وأبى حنيفة، والشافعى، وإسحاق، على ما جاء فى هذا الحديث‏.‏

وفيها‏:‏ قول ثان روى عن سعيد بن المسيب أنه قال‏:‏ يقيمه عن يساره وهذا خلاف الحديث فلا معنى له‏.‏

وفيها قول ثالث، روى عن النخعى قال‏:‏ إن كان خلفه رجل واحد فليقم خلفه ما بينه وبين أن يركع، فإن جاء أحد وإلا قام عن يمينه، ذكره ابن المنذر، وهذا يدل أنه لا تجوز صلاة المنفرد خلف الصف وحده، وسيأتى الكلام فى ذلك مستوعبًا فى باب إذا ركع دون الصف بعد هذا، إن شاء الله، ونذكر هاهنا منه طرفًا‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وقولهم ناقض؛ لأنه إذا صح عقده للصلاة وحده خلف الصف، فينبغى أن يجوز له فيه عمل الصلاة؛ لأنه لا يخرجه منها إلا حدث ينقض وضوءه، وقد قام ابن عباس عن يسار النبى، فأداره عن يمينه، ولم يأمره بابتداء الصلاة ولا بإعادتها، ولو لم يجزه لأمره بالإعادة‏.‏

وفيه‏:‏ أن العمل اليسير فى الصلاة جائز‏.‏

ويقال‏:‏ غط النائم غطيطًا، صوت فى نومه، والخطيط، بالخاء، لا يعرف‏.‏

باب إِذَا لَمْ يَنْوِ الإمَامُ أَنْ يَؤُمَّ ثُمَّ جَاءَ قَوْمٌ فَأَمَّهُمْ

- فيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ أنه قَالَ‏:‏ ‏(‏بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي ميمونة، فَقَامَ النَّبِيُّ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، فَقُمْتُ أُصَلِّي مَعَهُ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِرَأْسِي، فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى هذا الباب، فقال الثورى، وإسحاق، ورواية عن أحمد‏:‏ على المأموم الإعادة إذا لم ينو الإمام أن يؤتم به فى صلاته‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ إذا نوى الإمام جاز أن يصلى خلفه الرجال وإن لم ينوهم، ولا يجوز للنساء أن يصلين خلفه إلا أن ينويهن‏.‏

ولابن القاسم فى العتبية نحو قول أبى حنيفة، فيمن أمَّ النساء، سئل ابن القاسم عن إمام صلى برجال ونساء، فقام الرجل عن يمينه والنساء خلفهما فأحدث الإمام، فقدم صاحبه هل يصلى بالنساء اللاتى خلفه‏؟‏ قال‏:‏ يصلى المستخلف بالنساء، وإن لم يستخلفه الإمام إذا نوى أن يكون إمامهن، وقال مالك فى المدونة‏:‏ ولا بأس أن تأتم بمن لم ينو أن يؤمك فى الصلاة، وهو قول الشافعى‏.‏

وذكر الطحاوى أن قول زفر كقول مالك والشافعى‏:‏ أنه يجوز للمرأة الائتمام بمن لم ينو إمامتها‏.‏

وقال ابن القصار‏:‏ ولا إشكال فى أنه لا يحتاج إلى نية الإمامة، والمراعاة فى هذا نية المأموم أن يكون مأمومًا؛ لأنه إذا كان مأمومًا سقطت عنه القراءة والسهو؛ لأن الذى قد دخل فى الصلاة وحده قد دخل على أنه تلزمه القراءة والسهو، وأن أحدًا لا يتحملها عنه، والمأموم يدخل مقتديًا بغيره، فالقراءة والسهو عنه ساقطان، فهو يحتاج إلى نية الائتمام، ولو جاز أن يحتاج الإمام إلى نية الإمامة لجاز أن يقال‏:‏ يحتاج إلى أن يُعين فى صلاته من يصلى خلفه من الرجال والنساء حتى لو جاء أحد ممن لم ينوه لم يجز أن يصلى خلفه‏.‏

وحديث ابن عباس حجة لمالك ومن وافقه؛ لأن ابن عباس جاء والنبى يصلى بالليل، فجعله على يمينه، فمن ادعى أن النبى نوى أن يؤم ابن عباس فى تلك الصلاة فعليه الدليل، وأما قول أبى حنيفة، فلو قلبه عليه قالب، فقال‏:‏ إن نوى أن يكون إمامًا جاز للنساء أن يصلين خلفه ولم يجز للرجال، لم يكن له فرق ولم تكن الحجة لهم إلا كالحجة عليهم، وأيضًا فإن النساء كن يصلين خلف النبى، عليه السلام، ولم ينقل عنه أحد أنه عينهن بالنية، ولا حصل منه تعليم ذلك‏.‏

باب إِذَا طَوَّلَ الإمَامُ، وَكَانَ لِلرَّجُلِ حَاجَةٌ، فَخَرَجَ، فَصَلَّى

- فيه‏:‏ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ‏:‏ ‏(‏أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ ثم يَرْجِعُ فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ، فَصَلَّى الْعِشَاءَ، فَقَرَأَ بِالْبَقَرَةِ، فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ، فَكَأَنَّ مُعَاذ يَنَالَ مِنْهُ، فَبَلَغَ الرسول، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏فَتَّانٌ، فَتَّانٌ، فَتَّانٌ‏)‏، ثَلاثَ مرَات، وَأَمَرَهُ بِسُورَتَيْنِ مِنْ أَوْسَطِ الْمُفَصَّلِ‏)‏‏.‏

قَالَ عَمْرٌو‏:‏ لا أَحْفَظُهُمَا‏.‏

وترجم له‏:‏ ‏(‏باب من شكا إمامه إذا طول‏)‏‏.‏

لما أمر الرسول بالتخفيف كان من طول بالناس عاصيًا، ومخالفة العاصى جائزة؛ لأنه لا طاعة إلا فى المعروف‏.‏

وقد احتج أصحاب الشافعى بأن النبى لم ينكر على الرجل الذى خرج من صلاة معاذ ولا أمره بالإعادة، قال ابن القصار‏:‏ واختلفوا فيمن دخل مع إمام فى صلاة فصلى بعضها هل يجوز له أن يخرج منها فيتم منفردًا‏؟‏ قال الشافعى‏:‏ يجوز له أن يخرج منها بعذر أو بغير عذر، وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يجوز له‏.‏

والأمر عندى محتمل لأن مالكًا قال فى الإمام‏:‏ إذا أحدث وقد مضى بعض صلاته أنه يستخلف من يتم بهم، فإن لم يفعل قدموا من يتم بهم، فإن لم يفعلوا وصلوا وحدانًا، فإنه يجزئهم إلا فى الجمعة؛ لأنها لا تكون إلا بجماعة، وهؤلاء، فإن كان إمامهم بدأ بالخروج، فقد اختاروا ترك تمامها بجماعة، ويجوز أن لا يجزئه إذا خرج نفسه من غير عذر‏.‏

ويكون الفرق بينهما أنه إذا كان الإمام باقيًا فى الصلاة، فإن الصلاة متعلقة به، فما دام باقيًا فقد تعلقت صلاتهم بصلاته فلم تجز مخالفته باختيار المأمومين الخروج منها لغير عذر؛ لأنه يؤدى إلى الشتات وإلى ترك ما ألزمه نفسه من الجماعة التى هو مندوب إليها، وإذا دخل الإنسان فى طاعة وجب عليه المضى فيها إلا أن يطرأ عليه عذر‏.‏

ويجوز أن يستدل بهذا الحديث من رأى الخروج من إمامة الإمام إذا فعل فى صلاته ما لا يجوز له كالمصلى خامسةً أو رابعةً فى المغرب أو ثالثة فى الصبح، فيسبح به قيامًا‏.‏

قال ابن المواز‏:‏ إن قعدوا ينتظرونه حتى يتم الركعة بطلت صلاتهم، وكذلك المسافر إن قام من اثنتين فسبحوا به فتمادى سلموا وتركوه، وهذه رواية ابن وهب، وابن كنانة، عن مالك؛ لأنهم إن انتظروه وهو جاهل أو عامد فسدت عليه وعليهم، وإن كان ساهيًا لزمهم سجود السهو معه، وهذه خير من رواية ابن القاسم عن مالك فى المدونة أنهم ينتظرونه ويسلمون معه ويعيد هو فى الوقت، قال ابن المواز‏:‏ إنما أمرهم بذلك مالك فى هذه الرواية لاختلاف الناس فى صلاة المسافر، وأما الحضرى فلو انتظروه لبطلت صلاتهم‏.‏

باب تَخْفِيفِ الإمَامِ فِي الْقِيَامِ وَإِتْمَامِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ

- فيه‏:‏ أَبُو مَسْعُودٍ‏:‏ أَنَّ رَجُلا قَالَ‏:‏ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لأتَأَخَّرُ عَنْ صَلاةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلانٍ، مِمَّا يُطِيلُ بِنَا، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ، فَلْيَتَجَوَّزْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ‏)‏‏.‏

وترجم له‏:‏ ‏(‏باب إذا صلى لنفسه، فليطول ما شاء‏)‏‏.‏

وروى ذلك أبو هريرة عن الرسول‏.‏

فيه‏:‏ دليل أن أئمة الجماعة يلزمهم التخفيف لأمر رسول الله لهم بذلك، وقد بين فى هذا الحديث العلة الموجبة للتخفيف، وهى غير مأمونة على أحد من أئمة الجماعة؛ فإنه وإن علم قوة من خلفه، فإنه لا يدرى ما يحدث بهم من الآفات، ولذلك قال‏:‏ وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء؛ لأنه يعلم من نفسه ما لا يعلم من غيره، وقد ذكر الله الأعذار التى من أجلها أسقط فرض قيام الليل عن عباده، فقال‏:‏ ‏(‏علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون فى الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون فى سبيل الله‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 20‏]‏، فينبغى للأئمة التخفيف مع إكمال الركوع والسجود؛ ألا ترى أنه عليه السلام، قال للذى لم يتم ركوعه ولا سجوده‏:‏ ‏(‏ارجع فصل، فإنك لم تصل‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره فى الركوع والسجود‏)‏‏.‏

وممن كان يخفف الصلاة من السلف‏:‏ أنس بن مالك، قال ثابت‏:‏ صليت معه العتمة، فتجوز ما شاء الله، وكان سعد إذا صلى فى المسجد خفف الركوع والسجود وتجوز، وإذا صلى فى بيته أطال الركوع والسجود والصلاة، فقلت له، فقال‏:‏ إنا أئمة يقتدى بنا، وصلى الزبير بن العوام صلاة خفيفة، فقيل له‏:‏ أنتم أصحاب رسول الله أخف الناس صلاة، فقال‏:‏ إنا نبادر هذا الوسواس، وقال عمار‏:‏ احذفوا هذه الصلاة قبل وسوسة الشيطان، وكان أبو هريرة يتم الركوع والسجود ويتجوز، فقيل له‏:‏ هكذا كانت صلاة رسول الله‏؟‏ فقال‏:‏ نعم وأجوز، وقال عمرو بن ميمون‏:‏ لما طعن عمر تقدم عبد الرحمن ابن عوف، فقرأ بأقصر سورتين فى القرآن‏:‏ إنا أعطيناك الكوثر، وإذا جاء نصر الله، وكان إبراهيم يخفف الصلاة، ويتم الركوع والسجود، وقال أبو مجلز‏:‏ كانوا يتمون ويوجزون، ويبادرون الوسوسة، ذكر الآثار كلها ابن أبى شيبة فى مصنفه‏.‏

باب الإيجَازِ فِي الصَّلاةِ وَإِكْمَالِهَا

- فيه‏:‏ أَنَسِ قَالَ‏:‏ ‏(‏كَانَ النَّبِيُّ عليه السلام، يُوجِزُ الصَّلاةَ وَيُكْمِلُهَا‏)‏‏.‏

وقد دخل الكلام فى معنى هذا الباب فى الباب الذى قبله، فأغنى عن إعادته‏.‏

وروى الثورى، عن أبى إسحاق، عن عمرو بن ميمون الأودى قال‏:‏ لو أن رجلاً أخذ شاة عزوزًا لم يفرغ من لبنها حتى أصلى الصلوات الخمس أتم ركوعها وسجودها‏.‏

قال أبو عبد الله‏:‏ وإنما أراد التجوز فى الصلاة، قال أبو عبيد‏:‏ والعزوز‏:‏ الضيقة الإحليل، يقال‏:‏ عزت الشاة وتعززت‏:‏ إذا صارت كذلك، وأما الواسعة الإحليل، فإنها الثَّرُور‏.‏

باب مَنْ أَخَفَّ الصَّلاةَ عِنْدَ بُكَاءِ الصَّبِيِّ

- فيه‏:‏ أَبو قَتَادَةَ‏:‏ أن نَّبِيِّ الله قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنِّي لأقُومُ فِي الصَّلاةِ، فأُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاتِي، كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَسَ قال‏:‏ مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ إِمَامٍ قَطُّ، أَخَفَّ صَلاةً وَلا أَتَمَّ مِنَ الرسول، وَإِنْ كَانَ لَيَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَيُخَفِّفُ مَخَافَةَ أَنْ تُفْتَنَ أُمُّهُ‏.‏

فيه‏:‏ أنه كان يتجوز السجود فى الصلاة لأمور الدنيا خشية إدخال المشقة على النفوس‏.‏

وقد يجوز أن يحتج بهذا الحديث من قال‏:‏ أنه جائز للإمام إذا سمع خفق النعال، وهو راكع أن يزيد فى ركوعه شيئًا ليدركه الداخلون فيها؛ لأنه فى معنى تجوّز النبى، عليه السلام، من أجل بكاء الصبى، وممن أجاز ذلك‏:‏ الشعبى، والحسن، وعبد الرحمن ابن أبى ليلى، وقال آخرون‏:‏ ينتظرهم ما لم يشق على أصحابه، هذا قول أحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وقال مالك‏:‏ لا ينتظرهم؛ لأنه يضر بمن خلفه؛ لأنه لو فعل ذلك، ولعله يسمع آخر بعد ذلك فينتظره فيضر بمن معه، وهذا قول الأوزاعى، وأبى حنيفة، والشافعى، وقالوا‏:‏ يركع كما كان يركع‏.‏

واستدل أهل المقالة الأولى أنه لما كان تجوّزه فى صلاته لا يخرجه منها، دل أن الزيادة فيها شيئًا لا تخرجه من الصلاة، ولما أجمعوا أنه جائز للإمام أن ينتظر الجماعة ما لم يخف فوت الوقت جاز للراكع أيضًا ذلك ما لم يخف فوت الوقت‏.‏

باب إِذَا صَلَّى ثُمَّ أَمَّ قَوْمًا

- فيه‏:‏ جَابِرِ قَالَ‏:‏ ‏(‏كَانَ مُعَاذٌ يُصَلِّي مَعَ الرسول، ثُمَّ يَأْتِي قَوْمَهُ فَيُصَلِّي بِهِمْ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فذهبت طائفة ‏[‏إلى‏]‏ أنه يجوز أن يصلى الرجل نافلة، ويأتم به فيها من يصلى الفريضة، هذا قول عطاء، وطاوس، وبه قال الأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وأبو ثور، واحتجوا بظاهر هذا الحديث‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ لا يجوز لأحد أن يصلى فريضة خلف من يصلى نافلة، ومن خالفت نيته نية الإمام فى شىء من الصلاة لم يعتد بها، هذا قول الزهرى، وربيعة، ومالك، والثورى، وأبى حنيفة، وأصحابه، واحتجوا بقوله‏:‏ ‏(‏إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه‏)‏، ولا اختلاف أكثر من اختلاف النيات التى عليها مدار الأعمال‏.‏

قالوا‏:‏ وأما حديث معاذ فيحتمل أن يكون فى أول الإسلام وقت عدم القُراء، ووقت لا عوض للقوم من معاذ، فكانت حال ضرورة لا تجعل أصلاً يقاس عليه، قاله المهلب‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ يحتمل أن يكون ذلك وقت كانت الفريضة تصلى مرتين، فإن ذلك قد كان يفعل فى أول الإسلام حتى نهىعنه عليه السلام، حدثنا حسين بن نصر، حدثنا يزيد ابن هارون، حدثنا حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن سليم مولى ميمونة قالت‏:‏ ‏(‏أتيت المسجد فرأيت ابن عمر جالسًا والناس يصلون، فقلت‏:‏ ألا تصلى مع الناس‏؟‏ فقال‏:‏ صليت فى رحلى، إن رسول الله نهى أن تصلى فريضة فى يوم مرتين‏)‏، والنهى لا يكون إلا بعد الإباحة، فقد كان المسلمون فى بدء الإسلام يصلون فى منازلهم، ثم يأتون المسجد، فيصلون تلك الصلاة على أنها فريضة، فنهاهم عن ذلك، وأمر بعد ذلك من جاء إلى المسجد وأدرك تلك الصلاة أن يجعلها نافلة، وترك ابن عمر الصلاة يحتمل أن يكون تلك الصلاة لا تطوع بعدها، فلم يجز أن يصليها؛ إذ لا تطوع ذلك الوقت؛ لأنه قد روى عنه أنه سئل عمن صلى فى بيته، ثم أدرك تلك الصلاة فى المسجد أيتهما صلاته‏؟‏ قال‏:‏ الأولى‏.‏

حدثنا أبو بكر، حدثنا حبان، عن همام، عن قتادة، عن عامر الأحول، عن عمرو بن شعيب، عن خالد بن أيمن المعافرى قال‏:‏ كان أهل العوالى يصلون مع الرسول، فنهاهم النبى أن يعيدوا الصلاة فى يوم مرتين، قال عمرو‏:‏ فذكرته لسعيد بن المسيب، فقال‏:‏ صدق‏.‏

واحتج أهل المقالة الأولى فقالوا‏:‏ ما اعتللتم به من قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إنما جعل الإمام ليؤتم به‏)‏، لا حجة لكم فيه؛ لأنه إنما أمر بالائتمام فيما يظهر من أفعال الإمام، وأما النية فمغيبة عنه، ومحال أن نؤمر باتباعه فيما يخفى علينا من أفعاله، وفى الحديث نفسه دليل يدل على ما قلناه، وذلك قوله‏:‏ فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا‏.‏

وروى قتيبة عن الليث، عن ابن شهاب فى هذا الحديث‏:‏ ‏(‏فإذا كبر فكبروا، وإذا سجد فاسجدوا‏)‏، فعرفهم عليه السلام بما يقتدى فيه بالإمام، وهو ما ظهر من أفعاله، وأما معاذ فإنه كان يصلى مع الرسول فرضه، لا يجوز غير ذلك لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة‏)‏، فكيف يجوز أن ينويها نافلة فيخالف أمره، عليه السلام، ويرغب عن أداء فرضه معه، مع علمه بفضل صلاته معه، وقد روى ابن جريج، عن عمرو بن دينار قال‏:‏ أخبرنى جابر أن معاذًا كان يصلى مع رسول الله العشاء، ثم يرجع إلى قومه فيصلى بهم، هى له تطوع ولهم فريضة‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ واحتج عليهم أهل المقالة الثانية بأن هذا الحديث قد رواه ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، ولم يذكر فيه‏:‏ هى له تطوع ولهم فريضة، فيجوز أن يكون ذلك من قول ابن جريج، أو من قول عمرو، أو من قول جابر وأى هذه الثلاثة كان فليس فى الحديث ما يدل على حقيقة فعل معاذ أنه كان بأمر رسول الله، ولا أن رسول الله لو أُخبر به لأقره أو غيره، وهذا عمر بن الخطاب لما أخبره رفاعة بن رافع أنهم كانوا يجامعون على عهد رسول الله ولا يغتسلون حتى ينزلوا، قال عمر‏:‏ فأخبرتم الرسول بذلك، فرضيه لكم‏؟‏ قال‏:‏ لا، فلم يجعل عمر ذلك حجة، وكذلك هذا الفعل لم يكن فيه دليل أن معاذًا فعله بأمر نبى الله‏.‏

وقد روينا عن الرسول ما يدل على خلاف قولهم، حدثنا يحيى بن صالح الوحاظى، حدثنا سليمان بن بلال، عن عمرو بن يحيى المازنى، عن معاذ بن رفاعة الزرقى‏:‏ ‏(‏أن رجلاً من بنى سلمة يقال له‏:‏ سليم، لقى النبى، عليه السلام، فقال‏:‏ إنا نظل فى أعمالنا فنأتى حين نمسى، فنصلى مع معاذ، فيطول علينا، فقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏يا معاذ لا تكن فتانًا، إما أن تصلى معى، وإما أن تخفف على قومك‏)‏، فقوله لمعاذ هذا يدل على أنه كان عند رسول الله يفعل أحد الأمرين‏:‏ إما الصلاة معه، وإما الصلاة مع قومه، ولم يكن يجمعهما؛ لأنه قال‏:‏ إما أن تصلى معى، ولا تصلى بقومك، وإما أن تخفف بقومك، أى ولا تصلى معى، فثبت بهذا الأثر أنه لم يكن من الرسول لمعاذ فى ذلك شىء متقدم، ولو كان منه عليه السلام فى ذلك أمر كما قال أهل المقالة الأولى، لاحتمل أن يكون فى وقت كانت الفريضة تصلى مرتين‏.‏

فهذا وجه من طريق الآثار، وأما من طريق النظر، فإنا رأينا صلاة المأموم مضمنة بصلاة الإمام فى صحتها وفسادها؛ وذلك أن الإمام إذا سها وجب على من خلفه لسهوه ما يجب عليه، ولو سهوا هم ولم يسه هو لم يجب عليهم ما يجب عليه إذا سها، فلما ثبت أن المأمومين يجب عليهم حكم السهو بسهو الإمام، وينتفى عنهم حكم السهو بانتفائه عن الإمام، ثبت أن حكمهم فى صلاتهم حكم الإمام فى صلاته، وأن صلاتهم مضمنة بصلاته، وإذا كان كذلك لم يجز أن تكون صلاتهم خلاف صلاته‏.‏

باب مَنْ أَسْمَعَ النَّاسَ تَكْبِيرَ الإمَامِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ قَالَتْ‏:‏ ‏(‏لَمَّا مَرِضَ الرسول مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وأمر أَبَا بَكْرٍ بالصلاة، خَرَجَ النَّبِيُّ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ، أراد أن يَتَأَخَّرُ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ أَنْ صَلِّ، فَتَأَخَّرَ أَبُو بَكْرٍ، وَقَعَدَ الرسول إِلَى جَنْبِهِ، وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُ النَّاسَ التَّكْبِيرَ‏)‏‏.‏

إنما قام الرسول أبا بكر ليسمع الناس تكبيره، ويظهر إليهم أفعاله؛ لأنه كان ضَعُف عن إسماعهم، فأقامه لهم، ليقتدوا به فى حركاته؛ إذ كان جالسًا وهم قيام، ولم يمكنهم كلهم رؤيته‏.‏

وفيه من الفقه‏:‏ جواز رفع المُذكر صوته بالتكبير والتحميد فى الركوع والسجود ليسمع الناس إذا كثروا وبعدوا من الإمام فى الجمعات وغيرها، وإذا جاز للإمام أن يجهر بالتكبير، جاز للمأموم مثل ذلك، بدليل قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شىء من كلام الناس إنما هو التكبير والقراءة‏)‏، وإذا لم يجز الكلام فى الصلاة سرًا لم يجز أن يجهر به، ولما جاز فيها التكبير سرًا جاز أن يجهر به فيها‏.‏

وذكر محمد بن حارث، عن لقمان بن يوسف قال‏:‏ ذاكرنا حماس بن مروان فى رفع المذكر صوته بالتكبير فى الجمعات، فقال‏:‏ صلاتهم باطل، فقلت له‏:‏ بل هى جائزة بدليل الحديث فى ذلك أن رجلاً صلى خلف النبى فقال‏:‏ ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فسمعه الرسول فلم يأمره بالإعادة‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وأظن أبا حنيفة لا يجيز ذلك، وستأتى مذاهب العلماء فى الكلام فى الصلاة، والتكبير ذكر الله وليس بكلام يفسد الصلاة، ومن أفسد الصلاة بذلك، فلا شك فى خطئه، وفى الواضحة‏:‏ وما جاز للرجل أن يتكلم به فى الصلاة من معنى الذكر والقراءة، فرفع بذلك صوته ليُنبه به رجلاً أو يستوقفه فذلك جائز، وقد استأذن رجل على ابن مسعود، وهو يصلى فقال له‏:‏ ‏(‏ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 99‏]‏‏.‏

باب الرَّجُلُ يَأْتَمُّ بِالإمَامِ وَيَأْتَمُّ النَّاسُ بِالْمَأْمُومِ

وَيُذْكَرُ عَن الرسول‏:‏ ائْتَمُّوا بِي وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ‏:‏ فى حديث مرض النبى، عليه السلام، قَالَتْ‏:‏ ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏

فَجَاءَ الرَسُولُ فَجَلَسَ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي قَائِمًا، وَكَانَ عليه السلام، يُصَلِّي جالسًا، يَقْتَدِي أَبُو بَكْرٍ بِصَلاةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَالنَّاسُ يَقْتَدُونَ بِصَلاةِ أَبِي بَكْرٍ‏)‏‏.‏

هذا الباب موافق لقول الشعبى، ومسروق، وذلك أنهما قالا‏:‏ إن الإمام يؤم الصفوف، والصفوف يؤم بعضها بعضًا، قال الشعبى‏:‏ فإذا كثرت الجماعات فى المسجد، فدخل رجل وهم يصلون، فأحرم قبل أن يرفع الصف الذى يليه رءوسهم من الركعة، فإنه قد أدركها؛ لأن بعضهم أئمة لبعض، ويجوز له الاستدلال من هذا الحديث، وأما سائر الفقهاء فإنهم يراعون رفع الإمام وحده، وهو أحوط‏.‏

باب هَلْ يَأْخُذُ الإمَامُ إِذَا شَكَّ بِقَوْلِ النَّاسِ

- فيه‏:‏ أَبو هُرَيْرَةَ أَنَّ النبى، عليه السلام، انْصَرَفَ مِنِ اثْنَتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ‏:‏ أَقَصُرَتِ الصَّلاةُ أَمْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ‏؟‏‏)‏، فَقَالَ النَّاسُ‏:‏ نَعَمْ، فَقَامَ فَصَلَّى اثْنَتَيْنِ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏، الحديث‏.‏

اختلف العلماء فى الإمام إذا شك فى صلاته، فأخبره من خلفه من المأمومين أنه ترك ركعة هل يرجع إلى قولهم، ويدع يقينه أم لا‏؟‏ فقال ابن القصار‏:‏ اختلفت الرواية عن مالك فى ذلك، فقال مرة‏:‏ يرجع إلى قولهم، وهو قول أبى حنيفة؛ لأنهم يقولون‏:‏ إنه يبنى على غالب ظنه، وقال مرة أخرى‏:‏ يعمل على يقينه، ولا يرحع إلى قولهم، وهو قول الشافعى، قال ابن القصار‏:‏ فوجه قوله لا يرجع إلى قولهم، فإنما هو عندى إذا كان على يقين من صلاته، فلا يجوز أن يترك يقينه، وقال الشافعى‏:‏ رجوع الرسول يوم ذى اليدين إلى قول من أخبره إنما كان؛ لأنه ذُكِّر بذلك فَذَكر وبنى على يقينه، ووجه القول الآخر أن يأخذ بقولهم فالذى يؤدى إلى اليقين أن يأتى بركعة ويقبل قولهم؛ لأن يقين الاثنين أكثر من يقين الواحد، والذى يهمهم من أمر الصلاة مثل الذى يهمه، فينبغى أن يقبل منهم؛ لأنه يشك كما يشكون، غير أن الاثنين إذا اتفقا كانوا أقوى من الواحد، فكيف الجماعة، ولا معنى لقول الشافعى‏:‏ أن النبى، عليه السلام، ذُكِّرَ فَذَكر؛ لأنه لو ذكر لقال قد ذكرت، حتى لا يظن أحد أنه عمل على قولهم، فمن ادعى أنه ذكر بغير دلالة، فهو بمنزلة من قال‏:‏ إن الحاكم إذا حكم بشهادة الشهود، فإنه لم يحكم لأجل ما ثبت عنده من الشهادة، وإنما حكم لأنه علم ذلك‏.‏

باب بكاء الإمَامُ فِي الصَّلاةِ

وَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ‏:‏ سَمِعْتُ نَشِيجَ عُمَرَ، وَأَنَا فِي آخِرِ الصُّفُوفِ يَقْرَأُ‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ‏}‏ ‏[‏يوسف 86‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ فى حديث مرض النبى قَالَتْ‏:‏ ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏

إِنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يُسْمِعِ النَّاسَ مِنَ الْبُكَاءِ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، الحديث‏.‏

أجاز العلماء البكاء فى الصلاة من خوف الله واحتجوا بحديث عائشة وبفعل عمر، وقال أشهب‏:‏ قال مالك‏:‏ قرأ عمر بن عبد العزيز فى الصلاة فلما بلغ‏:‏ ‏(‏فأنذرتكم نارًا تلظى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 14‏]‏، خنقته العبرة فسكت، ثم قرأ فنابه ذلك، ثم قرأ فنابه ذلك، وتركها وقرأ‏:‏ ‏(‏والسماء والطارق‏)‏، واختلفوا فى الأنين والتأوّه، فقال ابن المبارك‏:‏ إذا كان غالبًا فلا بأس به، وقال الشافعى، وأبو ثور‏:‏ لا بأس به إلا أن يكون كلامًا مفهومًا، وقالت طائفة‏:‏ يعيد صلاته وهذا قول الشعبى، والنخعى، والكوفيين‏.‏

باب تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ عِنْدَ الإقَامَةِ وَبَعْدَهَا

- فيه‏:‏ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ‏:‏ قَالَ عليه السلام‏:‏ ‏(‏لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ، أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَسِ، قَالَ الرسول‏:‏ ‏(‏أَقِيمُوا الصُّفُوفَ، فَإِنِّي أَرَاكُمْ من وراء ظَهْرِي‏)‏‏.‏

تسوية الصفوف من سنة الصلاة عند العلماء، وإنه ينبغى للإمام تعاهد ذلك من الناس، وينبغى للناس تعاهد ذلك من أنفسهم، وقد كان لعمر وعثمان رجال يوكلونهم بتسوية الصفوف، فإذا استوت كبرا إلا أنه إن لم يقيموا صفوفهم لم تبطل بذلك صلاتهم‏.‏

وفيه‏:‏ الوعيد على ترك التسوية، وقال المهلب‏:‏ توعد من لم يقم الصفوف بعذاب من الذنب وهو المخالفة بين وجوههم، لاختلافهم فى مقامهم كما أن من قتل نفسه بحديدة عذب بها، والمرأة التى قتلت الهرة جوعًا عذبت بها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏إنى لأراكم من وراء ظهرى‏)‏، خصوص له، أعطاه الله من القوة أن يرى من خلفه كما يرى من أمامه لا أنه يخبر عنهم بخبر، ولو كان من طريق الخبر لقال عليه السلام، إنى لأعلم بحالكم من وراء ظهرى، وقد تقدم هذا وزيادة فيه فى باب ‏(‏عظة الإمام فى إتمام الصلاة‏)‏‏.‏

باب إِقْبَالِ الإمَامِ عَلَى النَّاسِ عِنْدَ تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ

- فيه‏:‏ أَنَسُ قَالَ‏:‏ ‏(‏أُقِيمَتِ الصَّلاةُ، فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ بِوَجْهِهِ، فَقَالَ‏:‏ أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، وَتَرَاصُّوا، فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ جواز الكلام بين الإقامة والإحرام، ولا بأس عند فقهاء الحجاز، وهو رد على الكوفيين، وقد تقدم ذلك فى باب الإمام تعرض له حاجة بعد الإقامة فى أبواب الأذان‏.‏

وقوله‏:‏ تراصوا فى الصلاة، أى‏:‏ انضموا، قال صاحب ‏(‏العين‏)‏‏:‏ رصصت البنيان رصا، أى‏:‏ ضممته، وتراصوا فى الصفوف منه، وقد ذكر الله الذين يقاتلون فى سبيله صفًا، كأنهم بنيان مرصوص، ومدحهم بذلك، وقضى بالمحبة للمصطفين فى طاعته، فدل أن الصف فى الصلاة كالصف فى سبيل الله‏.‏

وروى ابن أبى شيبة قال‏:‏ حدثنا ابن فضيل، عن الوليد بن جميع، عمن حدثه، عن ابن عباس أن نبى الله قال‏:‏ ‏(‏راصوا صفوفكم، فإن الشياطين تتخللكم كأنها أولاد الحذف‏)‏، فذكر هذا الحديث معنى أمره عليه السلام، بالتراص فى الصلاة، وقال صاحب ‏(‏العين‏)‏‏:‏ الحذف‏:‏ غنم سود صغار، ويقال‏:‏ هم أولاد الغنم‏.‏

باب الصَّفِّ الأوَّلِ

- فيه‏:‏ أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ رسول الله‏:‏ ‏(‏الشُّهَدَاءُ خمسة‏)‏ إلى قوله‏:‏ ‏(‏وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ لاسْتَهَمُوا‏)‏‏.‏

وقد تقدم الكلام فى هذا الحديث فى باب الاستهام فى الأذان، فأغنى عن إعادته، ونذكر منه هاهنا طرفًا، إنما فضل الصف الأول على غيره، والله أعلم، للقرب من سماع القرآن إذا جهر الإمام والتكبير عند تكبيره والتأمين عند فراغه من فاتحة الكتاب، وقد روى نوح بن أبى مريم قال‏:‏ حدثنا زيد العمى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبى، عليه السلام، أنه قال‏:‏ ‏(‏من ترك الصف الأول مخافة أن يؤذى مسلمًا أضعف الله له أجر الصف‏)‏‏.‏

باب إِقَامَةُ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلاةِ

- فيه‏:‏ أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ عليه السلام‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَلا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، الحديث، ‏(‏وَأَقِيمُوا الصَّفَّ فِي الصَّلاةِ، فَإِنَّ إِقَامَةَ الصَّفِّ مِنْ حُسْنِ الصَّلاةِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَسِ، قَالَ النَّبِيِّ، عليه السلام‏:‏ ‏(‏سَوُّوا صُفُوفَكُمْ، فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلاةِ‏)‏‏.‏

هذا الحديث يدل أن إقامة الصفوف سنة مندوب إليها، وليس بفرض؛ لأنه لو كان فرضًا لم يقل، عليه السلام، فإن إقامة الصفوف من حسن الصلاة؛ لأن حسن الشىء زيادة على تمامه، وذلك زيادة على الوجوب، ودل هذا على أن قوله فى حديث أنس‏:‏ ‏(‏فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة‏)‏، أن إقامة الصلاة قد تقع على السنة كما تقع على الفريضة‏.‏

باب إِثْمِ مَنْ لَمْ يُتِمَّ الصُّفُوفَ

- فيه‏:‏ أَنَسِ‏:‏ أَنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَقِيلَ لَهُ‏:‏ مَا أَنْكَرْتَ مُنْذُ يَوْمِ عَهِدْتَ رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ فقَالَ‏:‏ ‏(‏مَا أَنْكَرْتُ شَيْئًا إِلا أَنَّكُمْ لا تُقِيمُونَ الصُّفُوفَ‏)‏‏.‏

لما كان تسوية الصف من السنة المندوب إليها التى يستحق فاعلها المدح عليها، دل ذلك أن تاركها يستحق الذم والعتب كما قال أنس، رحمة الله عليه، غير أن من لم يقم الصفوف لا إعادة عليه؛ ألا ترى أن أنسًا لم يأمرهم بإعادة الصلاة‏.‏

باب إِلْزَاقِ الْمَنْكِبِ بِالْمَنْكِبِ، وَالْقَدَمِ بِالْقَدَمِ فِي الصَّفِّ

قَالَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ‏:‏ ورَأَيْتُ الرَّجُلَ مِنَّا يُلْزِقُ كَعْبَهُ بِكَعْبِ صَاحِبِهِ‏.‏

- فيه‏:‏ أَنَسِ قَال النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي، وَكَانَ أَحَدُنَا يُلْزِقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ وَقَدَمَهُ بِقَدَمِهِ‏)‏‏.‏

هذه الأحاديث تفسر قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏تراصُّوا فى الصف‏)‏، وهذه هيئة التراص، وفيه‏:‏ أن الكعب هو العظم الناتئ فى أثر الساق ومؤخر القدم، كما قال أهل المدينة؛ لأنه لو كان الكعب فى مقدم القدم كما قال أهل الكوفة لما تمكن أن يلزق أحدهم كعبه بكعب صاحبه، وهذا يدل على أن الكعبين اللذين جعلهما الله غاية فى غسل القدمين هما المذكوران فى حديث النعمان بن بشير، وقد تقدم هذا فى كتاب الطهارة بزيادة‏.‏

باب الْمَرْأَةُ وَحْدَهَا تَكُونُ صَفًّا

- فيه‏:‏ أَنَسِ قَالَ‏:‏ ‏(‏صَلَّيْتُ أَنَا وَيَتِيمٌ فِي بَيْتِنَا خَلْفَ النَّبِيِّ عليه السلام، وَأُمِّي خَلْفَنَا أُمُّ سُلَيْمٍ‏)‏‏.‏

فى هذا الحديث من الفقه‏:‏ أن سنة النساء القيام خلف الرجال، ولا يقمن معهم فى صف؛ لأن الفتنة تخشى منهن‏.‏

قال المهلب‏:‏ وكذلك إن كُنَّ عجائز أو ذوات محارم للرجال، فلا يصطففن مع الرجال، وأن صفوفهن وراء صفوف الرجال، إلا أنه إن صلت المرأة إلى جنب رجل تمت صلاتهما عند مالك، والشافعى، والأوزاعى‏.‏

وعند الكوفيين تمت صلاة المرأة وفسدت صلاة الرجل، واحتجوا بأنها وقفت فى غير محلها، كما أن من صلى قدام الإمام صلى فى غير محله، ففسدت صلاته، فجاوبهم أهل المقالة الأولى، وقالوا‏:‏ صلاته عندنا صحيحة إذا صلى قدام الإمام، كما لو وقف على يساره، وعلى هذا الحساب كان ينبغى أن تبطل صلاة المرأة دون الرجل؛ لأنها وقفت فى غير محلها فلما قلتم أن صلاة المرأة صحيحة، كانت صلاة الرجل أولى أن تصح؛ لأنه وقف فى محله، ووقفت هى فى غير محلها، وهذا يرد قول أحمد، وإسحاق أن من صلى خلف الصف وحده بطلت صلاته، وإن كانت امرأة صحت صلاتها، وذلك لأنه لما صحت صلاة أم أنس وحدها خلف الصف، وكانت صفا كان الرجل أولى بذلك، وإلى هذا المعنى أشار البخارى فى ترجمته، وفى هذا الحديث حجة على الكوفيين‏.‏

وقولهم‏:‏ أنه إذا كان مع الإمام رجلان قام وسطهما، وإن كانوا ثلاثة قاموا خلفه، واحتجوا بأن ابن مسعود صلى بعلقمة والأسود وقام بينهما، وهذا الحديث بخلاف ذلك؛ لأن أنسًا ذكر أنه واليتيم صليَا خلف النبى، عليه السلام، وصلت أمه خلفهما، والحجة فى السنة لا فيما خالفها، وبهذا الحديث قال سائر الفقهاء‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه أن الصبى إذا عقل الصلاة يكون فى الصف‏.‏

وفيه‏:‏ أن الصف من الرجال يكون من اثنين فصاعدًا، وأن الصف من النساء إذا صلين مع الرجال يكون من امرأة واحدة‏.‏

باب إِذَا كَانَ بَيْنَ الإمَامِ وَبَيْنَ الْقَوْمِ حَائِطٌ أَوْ سُتْرَةٌ

قَالَ الْحَسَنُ‏:‏ لا بَأْسَ أَنْ تُصَلِّيَ وَبَيْنَكَ وَبَيْنَهُ نَهْرٌ‏.‏

وقال أَبُو مِجْلَزٍ‏:‏ يَأْتَمُّ بِالإمَامِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا جِدَارٌ أَوْ طَرِيقٌ، إِذَا سَمِعَ تَكْبِيرَ الإمَامِ‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ قَالَتْ‏:‏ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ فِي حُجْرَتِهِ، وَجِدَارُ الْحُجْرَةِ قَصِيرٌ، فَرَأَى النَّاسُ شَخْصَ النَّبِيِّ عليه السلام، فَقَامَ أُنَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلاتِهِ، فَأَصْبَحُوا، فَتَحَدَّثُوا بِذَلِكَ، فَقَامَ اللَّيْلَةَ الثَّانِيَةَ، فَقَامَ مَعَهُ نَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلاتِهِ، صَنَعُوا ذَلِكَ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا، حَتَّى إِذَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ، جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ، فَلَمْ يَخْرُجْ، فَلَمَّا أَصْبَحَ ذَكَرَ ذَلِكَ النَّاسُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُكْتَبَ عَلَيْكُمْ صَلاةُ اللَّيْلِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ‏:‏ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ اتَّخَذَ حُجْرَةً- حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ مِنْ حَصِيرٍ- فِي رَمَضَانَ، فَصَلَّى فِيهَا لَيَالِيَ، فَصَلَّى بِصَلاتِهِ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا عَلِمَ بِهِمْ، جَعَلَ يَقْعُدُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، وقَالَ‏:‏ ‏(‏قَدْ عَرَفْتُ الَّذِي رَأَيْتُ مِنْ صَنِيعِكُمْ، فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ أَفْضَلَ الصَّلاةِ صَلاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلا الْمَكْتُوبَةَ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ اختلف العلماء فى الإمام بينه وبين القوم طريق أو حائط، فأجازته طائفة، روى ذلك عن أنس بن مالك، وأبى هريرة، وسالم، وابن سيرين، وكان عروة يصلى بصلاة الإمام وهو فى دار بينها وبين المسجد طريق، وقال مالك‏:‏ لا بأس أن يصلى وبينه وبينه طريق أو نهر صغير، وكذلك السفن المتقاربة يكون الإمام فى إحداها تجزئهم الصلاة معه‏.‏

وقال عطاء‏:‏ لا بأس أن يصلى بصلاة الإمام من علمها‏.‏

وكرهت ذلك طائفة روى عن عمر بن الخطاب إذا كان بينه وبين الإمام طريق أو نهر أو حائط فليس معه، وكره الشعبى وإبراهيم أن يكون بينهما طريق، وزاد إبراهيم‏:‏ أو نساء‏.‏

وقال الكوفيون‏:‏ لا تجزئه إلا أن تكون الصفوف متصلة على الطريق، وهو قول الليث، والأوزاعى، وأشهب صاحب مالك، وكذلك اختلفوا فيمن صلى فى دار محجور عليها بصلاة الإمام، فأجازه عطاء، وأبو حنيفة فى الجمعة وغيرها، وبه قال ابن نافع صاحب مالك، وجوزه مالك إذا كان يسمع التكبير إلا فى الجمعة خاصة، فلا تصح صلاتها عنده فى موضع يمنع منه فى سائر الأوقات، ولا تجوز إلا فى الجامع ورحابه‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ لا يجوز أن يصلى فى موضع محجور عليه فى الجمعة وغيرها إلا أن تتصل الصفوف‏.‏

وحجة من أجاز ذلك حديث عائشة، وزيد بن ثابت أنه عليه السلام، صلى فى حجرته وصلى الناس بصلاته، فلو لم تجزئهم لأخبرهم بذلك لأنه بُعث معلمًا‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وقد كان أزواج الرسول يصلين فى حجرهن بصلاته، وبعده بصلاة أصحابه إذا لم يمنع الحائل بين الإمام والمأموم من تكبيرة الإحرام ولا استماع التكبير لم يقدح فى الصلاة، دليله‏:‏ الأعمى، ومن بينه وبين الإمام صفوف أو سارية، فلا معنى للمنع من ذلك‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفى هذا الحديث جواز الائتمام بمن لم ينو أن يكون إمامًا فى تلك الصلاة؛ لأن الناس ائتموا برسول الله من وراء الحائط ولم يعتقد نية معهم على الإمامة، وهو قول مالك، والشافعى وقد تقدم‏.‏

باب إِيجَابِ التَّكْبِيرِ وَافْتِتَاحِ الصَّلاةِ

- فيه‏:‏ أَنَسُ‏:‏ ‏(‏أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ رَكِبَ فَرَسًا، فصرع عنه، فَجُحِشَ شِقُّهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، إلى قوله‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كبر فكبروا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا قَالَ‏:‏ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا‏:‏ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبو هُرَيْرَةَ‏:‏ أن رسول الله قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

اختلف العلماء فى وجوب تكبيرة الإحرام، فذهب جمهور العلماء إلى وجوبه، وذهبت طائفة إلى أنه سنة وممن روى ذلك عنه‏:‏ سعيد بن المسيب، والحسن البصرى، والحكم، والزهرى، والأوزاعى، وقالوا‏:‏ إن تكبيرة الركوع تجزئه من تكبيرة الإحرام، وروى عن مالك فى المأموم ما يدل على أنه سنة، قال فى ‏(‏الموطأ‏)‏ فى رجل دخل مع الإمام فنسى تكبيرة الافتتاح وتكبيرة الركوع حتى صلى ركعة، فذكر أنه لم يكن كبر للافتتاح ولا للركوع، وكبر فى الركعة الثانية، فقال‏:‏ يبتدئ صلاته أحب إلى‏.‏

وروى عنه ابن القاسم فى ‏(‏المدونة‏)‏، أن المأموم إن نسى تكبيرة الافتتاح وكبر للركوع ينوى بها للإحرام، أجزأه، وإن لم ينو إحرامًا تمادى وأعاد احتياطًا للاختلاف، وذلك أنها لا تجزئه عند ربيعة، وتجزئه عند ابن المسيب، فوجه قوله فى الموطأ‏:‏ يبتدئ أحب إلىّ، يدل على ما قال فى المدونة‏:‏ إذا تمادى أجزأه، غير أنه قال‏:‏ يعيد احتياطًا للصلاة، ولم يختلف قوله فى المنفرد والإمام أن تكبيرة الإحرام واجبة على كل واحد منهما، وأن من نسيها منهم يستأنف صلاته‏.‏

وحجة الذين أوجبوا تكبيرة الإحرام‏:‏ قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏فإذا كبر فكبروا‏)‏، فذكر تكبير الإحرام دون غيره من سائر التكبير، وقد أجمعوا أن من ترك سائر التكبير غير تكبير الإحرام أن صلاته جائزة، فدل ذلك على أن سائر التكبير غير تكبيرة الإحرام ليس بلازم، واحتجوا أيضًا على ذلك بما رواه الثورى، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن الحنفية، عن على أن رسول الله قال‏:‏ ‏(‏تحريم الصلاة التكبير وتحليلها التسليم‏)‏، وكان أحمد وإسحاق يحتجان بهذا الحديث‏.‏

وحجة الذين رأو تكبيرة الإحرام سنة‏:‏ إجماعهم أن من ترك التكبير كله ما عدا الإحرام أن صلاته تامة قالوا‏:‏ وكذلك تكبير الإحرام مثل تكبير سائر الصلوات فى القياس؛ لأن التكبير معناه كله واحد فى أنه إذن بحركات الإمام وشعار الصلاة‏.‏

واختلفوا‏:‏ هل يجزئ افتتاح الصلاة بالتسبيح والتهليل مكان التكبير‏؟‏ فقال مالك، وأبو يوسف، والشافعى، وأحمد، وإسحاق‏:‏ لا يجزئ إلا ‏(‏الله أكبر‏)‏، وأجاز الشافعى ‏(‏الله أكبر‏)‏‏.‏

وقال الكوفيون‏:‏ يجزئ من التكبير ما قام مقامه من تعظيم الله وذكره‏.‏

وحجة مالك ومن وافقه‏:‏ قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏وإذا كبر فكبروا‏)‏، يدل أنه لابد من لفظة التكبير، ومن زعم غير ذلك فعليه الدليل‏.‏

باب رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي التَّكْبِيرَةِ الأولَى فِى الافْتِتَاحِ سَوَاءً

- فيه‏:‏ ابْنِ عمر‏:‏ ‏(‏أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلاةَ، وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، رَفَعَهُمَا كَذَلِكَ أَيْضًا، وَقَالَ‏:‏ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَكَانَ لا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ‏)‏‏.‏

وترجم له‏:‏ رفع اليدين إذا كبر وإذا ركع وإذا رفع‏.‏

وترجم له‏:‏ إلى أين يرفع يديه‏.‏

وقال أبو حميد‏:‏ رفع النبى يديه حذو منكبيه‏.‏

اختلف العلماء فى رفع اليدين فى الصلاة، فذهبت طائفة إلى رفع اليدين عند تكبيرة الافتتاح خاصة، روى ذلك عن عمر، وعلى، وابن مسعود، وابن عباس، وهو قول الثورى، وأبى حنيفة، ورواه ابن القاسم عن مالك‏.‏

وذهبت طائفة إلى رفع اليدين عند كل رفع وخفض، قال عطاء‏:‏ رأيت أبا سعيد الخدرى، وابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، يرفعون أيديهم عند الافتتاح، وعند الركوع، وعند رفع الرأس منه، وكان أنس يفعله، وفعله أبو حميد الساعدى فى عشرة من الصحابة، وهو قول الأوزاعى، رواه ابن وهب، وأبو مصعب عن مالك، وإليه ذهب الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، واحتجوا بحديث ابن عمر‏.‏

واحتج أهل المقالة الأولى بما رواه سفيان، عن يزيد بن أبى زياد، عن ابن أبى ليلى، عن البراء بن عازب قال‏:‏ ‏(‏كان النبى، عليه السلام، إذا كبر لافتتاح الصلاة رفع يديه، ثم لا يعود‏)‏، وبما رواه سفيان، عن عاصم بن كليب، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود، ‏(‏أن النبى، عليه السلام، كان يرفع يديه فى أول تكبيرة ثم لا يعود‏)‏، قالوا‏:‏ وقد خالف ابن عمر روايته فى ذلك عن الرسول‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وذلك ما حدثنا ابن أبى داود، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا أبو بكر ابن عياش، عن حصين، عن مجاهد قال‏:‏ ‏(‏صليت خلف ابن عمر، فلم يكن يرفع يديه إلا فى التكبيرة الأولى من الصلاة خاصة‏)‏، فلم يترك ابن عمر الرفع فى خفض ورفع، وقد رأى الرسول يفعله، إلا وقد فهم أن ذلك من فعله على الإباحة والتخيير، يدل على ذلك ما روى مالك، عن أبى جعفر القارئ، ونعيم المجمر أنهما أخبراه أن أبا هريرة كان يصلى بهم، ويكبر كلما خفض ورفع، وكان يرفع يديه حين يفتتح الصلاة، ويقول‏:‏ والله إنى لأشبهكم صلاة برسول الله، فلما روى ذلك كله عن الرسول لم يكن فى ذلك شىء أولى من حمل الآثار على الإباحة إن لم يثبت فيها النسخ‏.‏

والدليل على ذلك أن من رفع لم ينكر عليه من لم يرفع، غير أنه يرجح القول بفعل الخليفتين بعد النبى، عليه السلام، عمر، وعلى بن أبى طالب، وإن كان قد اختلف فيه عن على، فلم يختلف فيه عن عمر، قال الطحاوى‏:‏ بل قد ثبت ذلك عنه، أفترى عمر خفى عليه أن نبى الله كان يرفع يديه فى الركوع، وعلم ذلك من هو دونه أو من هو معه يراه يفعل غير ما كان رسول الله يفعله ولا ينكر ذلك عليه‏؟‏ هذا محال، فهذا وجهه من طريق الآثار‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وأما وجهه من طريق النظر، فإنهم أجمعوا أن تكبيرة الافتتاح معها رفع، وأن التكبير بين السجدتين لا رفع معه، واختلفوا فى تكبيرة النهوض وتكبيرة الرفع، فقال قوم‏:‏ حكمها حكم تكبيرة الافتتاح فى الرفع، وقال آخرون‏:‏ حكمها حكم التكبير بين السجدتين فى أنه لا رفع فيهما كما لا رفع فيها، ورأينا تكبيرة الافتتاح من صلب الصلاة، ولا تجزئ الصلاة إلا بإصابتها، فرأينا التكبير بين السجدتين ليس كذلك؛ لأنها لو تركها تارك لم تفسد صلاته، فأشبه تكبير الركوع فى ذلك لإجماعهم أن من ترك تكبير الركوع والسجود فصلاته تامة، فكانتا كهى فى أنه لا رفع فيهما كما لا رفع فيها‏.‏

قال المهلب فى معنى رفع اليدين فى افتتاح الصلاة‏:‏ إنما هو علم للتكبير؛ ليرى حركة اليدين من لم يسمع التكبير، فيعرف أن الإمام كبر، فيوقع إحرامه بعد إمامه، وأما غير ذلك من التكبير فهو بحركات فيستوى الناس كلهم فيها‏.‏

واختلفوا إلى أين يرفع المكبر يديه، فقال مالك‏:‏ يرفعهما حذو منكبيه، وهو قول الشافعى، وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بحديث ابن عمر، وقال أبو حنيفة‏:‏ يرفع يديه حذو أذنيه، واحتجوا بما رواه سفيان، عن يزيد بن أبى زياد، عن ابن أبى ليلى، عن البراء بن عازب قال‏:‏ ‏(‏كان نبى الله إذا كبر للافتتاح رفع يديه حتى تكون إبهاماه قريبًا من شحمتى أذنيه‏)‏، ورواه مالك بن الحويرث، ووائل بن حجر عن الرسول‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ فيحمل حديث ابن عمر على الاختيار وحديث البراء على الجواز‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ إنما كان الرفع إلى المنكبين فى حديث ابن عمر وقت كانت يداه فى ثيابه بدليل ما رواه شريك، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل بن حجر قال‏:‏ ‏(‏أتيت النبى، عليه السلام، فرأيته يرفع يديه حذاء أذنيه إذا كبر، ثم أتيته من العام المقبل وعليهم الأكسية والبرانس، فكانوا يرفعون أيديهم فيها، وأشار شريك إلى صدره‏)‏، فأخبر وائل أن رفعهم إلى مناكبهم إنما كان لأن أيديهم كانت فى ثيابهم، وأن رفعهم أيديهم إلى آذانهم كان حين كانت أيديهم بادية، ولم يجز أن يجعل حديث ابن عمر وما أشبهه، الذى فيه الرفع إلى المنكبين، كان واليدان باديتان، لئلا تتضاد الآثار، وحملها على الاتفاق أولى، ويكون حديث وائل من رفعه إلى أذنيه فى غير حال البرد‏.‏

باب رَفْعِ الْيَدَيْنِ إِذَا قَامَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ

- فيه‏:‏ ابْنَ عُمَرَ‏:‏ أنه كَانَ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلاةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا قَالَ‏:‏ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا قَامَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَرَفَعَه إِلَى النَبِيِّ عليه السلام‏.‏

ورَوَاهُ عبيد الله وأَيُّوبَ وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عن نافع‏.‏

والرفع عند القيام زيادة فى هذا الحديث على ما رواه ابن شهاب، عن سالم فيه، يجب قبولها لمن يقول بالرفع، وليس فى حديث ابن شهاب، ما يدفعها بل فيه ما يثبتها، وهو قوله‏:‏ وكان لا يفعل ذلك بين السجدتين، فدليله أنه كان يفعلها فى كل خفض ورفع ما عدا السجود، وكان أحمد بن حنبل لا يرفع بين السجدتين، ولا عند القيام من الركعتين، وهو ممن يقول بالرفع فى كل خفض ورفع، فيمكن أن يرد عليه البخارى بهذا الحديث‏.‏

باب وَضْعِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فِي الصَّلاةِ

- فيه‏:‏ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ الْيَدَ الْيُمْنَى عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى فِي الصَّلاةِ‏.‏

قَالَ أَبُو حَازِمٍ‏:‏ لا أَعْلَمُهُ إِلا يَنْمِي ذَلِكَ إِلَى رسول الله‏.‏

اختلف العلماء فى هذا الباب، فممن روى عنه وضع اليمنى على اليسرى فى الصلاة‏:‏ أبو بكر الصديق، وعلى بن أبى طالب، وهو قول الثورى والكوفيين، وقال ابن حبيب‏:‏ سألت مطرفًا، وابن الماجشون عن ذلك فقالا‏:‏ لا بأس به فى المكتوبة والنافلة، وروياه عن مالك، ورواه أشهب، وابن نافع، وابن وهب، عن مالك أيضًا، وهو قول الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وهو من باب الخشوع‏.‏

وقال عطاء‏:‏ من شاء فعل ذلك، ومن شاء تركه، وهو قول الأوزاعى‏.‏

ورأت طائفة إرسال اليدين فى الصلاة، روى ذلك عن ابن الزبير، والحسن البصرى، وسعيد بن المسيب، ورأى سعيد بن جبير رجلاً يصلى واضعًا يمينه على شماله، فذهب ففرق بينهما‏.‏

وروى ابن القاسم عن مالك قال‏:‏ لا أحبه فى المكتوبة ولا بأس به فى النوافل من طول القيام‏.‏

وحجة أهل المقالة الأولى حديث سهل بن سعد، وقد روى ابن مسعود، ووائل بن حجر، ووالد قبيصة، عن النبى، عليه السلام، مثل حديث سهل بن سعد، وقال على بن أبى طالب‏:‏ ذلك من السنة، وقال فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فصل لربك وانحر‏}‏ ‏[‏الكوثر‏:‏ 2‏]‏، قال‏:‏ وضع اليمين على الشمال فى الصلاة تحت الصدور، وروى أن ابن عمر كان يفعله‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ ووجه قول من كره ذلك أنه عمل فى الصلاة، وربما شغل صاحبه، وربما دخله ضرب من الرياء، وقد علم النبى، عليه السلام، الأعرابى الصلاة ولم يأمره بوضع اليد على اليد، فإن قيل‏:‏ إن وضعها من الخشوع، قيل‏:‏ الخشوع لله، تعالى، الإقبال عليه والإخلاص فى الصلاة‏.‏

وقوله‏:‏ ينمى يعنى يرفع‏.‏

باب الْخُشُوعِ فِي الصَّلاةِ

- فيه‏:‏ أَبو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ‏:‏ ‏(‏هَلْ تَرَوْنَ قِبْلَتِي هَا هُنَا‏؟‏، وَاللَّهِ مَا يَخْفَى عَلَيَّ رُكُوعُكُمْ، وَلا خُشُوعُكُمْ، وَإِنِّي لأرَاكُمْ مِنْ وَرَاءَ ظَهْرِي‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَسِ، قَالَ النَّبِيِّ‏:‏ ‏(‏أَقِيمُوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لأرَاكُمْ مِنْ بَعْدِي- وَرُبَّمَا قَالَ مِنْ بَعْدِ ظَهْرِي- إِذَا رَكَعْتُمْ وَسَجَدْتُمْ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ مدح الله تعالى، من كان خاشعًا فى صلاته مقبلاً عليها بقلبه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قد أفلح المؤمنون الذين هم فى صلاتهم خاشعون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 1، 2‏]‏، وقال على بن أبى طالب‏:‏ الخشوع فى القلب وأن لا تلتفت فى صلاتك، وقال ابن عباس‏:‏ ‏(‏الذين هم فى صلاتهم خاشعون ‏(‏، يعنى‏:‏ خائفين ساكنين‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ الخشوع فرض فى الصلاة‏.‏

قيل له‏:‏ بحسب الإنسان أن يقبل على صلاته بقلبه ونيته ويريد بذلك وجه الله ولا طاقة له فيما اعترض من الخاطر، وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه قال‏:‏ إنى لأجهز جيشى فى الصلاة، رواه حفص بن غياث، عن عاصم، عن أبى عثمان النهدى، عن عمر‏.‏

وروى حفص عن هشام بن عروة، عن أبيه قال‏:‏ قال عمر بن الخطاب‏:‏ إنى لأحسب جزية البحرين وأنا فى صلاتى‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفى حديث هذا الباب النهى عن نقصان الركوع والسجود لتوعد الرسول لهم على ذلك‏.‏

وفيه‏:‏ دليل أن الطمأنينة والاعتدال فى الركوع والسجود من سنن الصلاة وليس من فروضها؛ لأن الرسول لم يأمر هؤلاء الذين قال لهم‏:‏ ‏(‏لم يخف على ركوعكم ولا سجودكم‏)‏، بالإعادة، ولو كان من فروض الصلاة ما سكت عن إعلامهم بذلك؛ لأن فرضا عليه البيان لأمته، وسأذكر اختلاف العلماء فى ذلك فى باب أمر النبى الذى لا يتم ركوعه بالإعادة فى أبواب الركوع بعد هذا، إن شاء الله‏.‏

باب مَا يَقُولُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ

- فيه‏:‏ أَنَسِ‏:‏ ‏(‏أَنَّ نَّبِيَّ الله، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلاةَ بِ‏)‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة 2‏]‏‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَ الرَسُولُ كان يَسْكُتُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ والْقِرَاءَةِ إِسْكَاتَةً- قَالَ‏:‏ أَحْسِبُهُ، قَالَ‏:‏ هُنَيَّةً- فَقُلْتُ‏:‏ بِأَبِي أنت وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِسْكَاتُكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ، مَا تَقُولُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏أَقُولُ‏:‏ اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ حديث أنس حجة لمن قال‏:‏ لا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم فى صلاة فى أول فاتحة الكتاب، وهو قول مالك والأوزاعى‏.‏

وقال ابن أبى ليلى، وأبو حنيفة، وأصحابه، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور‏:‏ هى آية من فاتحة الكتاب‏.‏

ومن حجة أهل المقالة الأولى‏:‏ أن الطريق إلى إثبات آية من السورة كالطريق إلى إثبات السورة بعينها، وقد حصل لنا العلم الضرورى بنقل الكافة أن الحمد سورة من القرآن ولم يقع لنا العلم الضرورى أن بسم الله الرحمن الرحيم آية منها، فلا يجوز إثبات قرآن إلا بنقل الكافة، ووجدنا أهل المدينة بأسرهم ينفون كونها من فاتحة الكتاب مع اتصال القارئ بقراءتها فى كل صلاة، وسائر الأئمة على إقامة الصلوات من لدن رسول الله إلى وقتنا هذا وليس هذا مما يُنسى أو يقع فيه قلة ضبط؛ لأن هذا أشهر من الأجناس وزكاة الخضر والمُدّ والصاع الذى يحتج به مخالفنا فى هذه المسألة على مخالفته؛ ألا ترى قول أنس أن الرسول وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين، وقوله‏:‏ كانوا يفتتحون إخبار عن فعل دائم، وقد قال عروة بن الزبير، وعبد الرحمن الأعرج‏:‏ أدركنا الأئمة وما يفتتحون الصلاة إلا بالحمد لله رب العالمين‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وقد رأيناها مكتوبة فى فواتح السور فى فاتحة الكتاب وفى غيرها وكانت فى غير فاتحة الكتاب ليست بآية، فثبت أنها أيضًا فى فاتحة الكتاب ليست بآية‏.‏

وأما حديث السكتة فى حديث أبى هريرة، فإن الأوزاعى، والشافعى، وأحمد بن حنبل يقولون بها، وقال الشافعى‏:‏ أحب للإمام أن يكون له سكتة بين التكبير والقراءة، ليقرأ فيها المأموم بالحمد لله رب العالمين‏.‏

وقال مالك والكوفيون‏:‏ لا شىء بعد التكبير إلا قراءة فاتحة الكتاب، وحديث أبى هريرة يرد العلة التى علل بها الشافعى هذه السكتة؛ لأن أبا هريرة سأل الرسول عنها فقال‏:‏ أقول‏:‏ ‏(‏اللهم باعد بينى وبين خطاياى‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، الحديث، ولو كانت ليقرأ من وراء الإمام فيها لقال عليه السلام، إنى أسكت لكى يقرأ من ورائى‏:‏ ‏(‏الحمد لله رب العالمين‏)‏، فبين عليه السلام أن السكتة لغير ما قال الشافعى، واستحب أبو حنيفة، ومحمد أن يسبح بعد التكبير، وقال أبو يوسف‏:‏ يسبح ويقول‏:‏ ‏(‏وجهت وجهى للذى فطر السموات والأرض‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 79‏]‏ الآية، وقال الشافعى‏:‏ يقول‏:‏ وجهت وجهى ولا يسبح‏.‏

وقال مالك‏:‏ إنما يجب التكبير، ثم القراءة ولو كانت هذه الإسكاتة مما واظب عليها النبى، عليه السلام، لم يخف ذلك، ولنقلها أهل المدينة عيانًا وعملاً، فيحتمل أن يكون عليه السلام، فعلها فى وقت ثم تركها تخفيفًا عن أمته، فتركها واسع‏.‏

والهُنَيَّة‏:‏ كل شىء صغير ندر من شىء، قال الفسوى‏:‏ يقال‏:‏ هن يهن من الدهر وهننى هنة‏.‏

وقوله‏:‏ هنيةً من الدهر مصروف إلى هننى‏.‏

قال ثعلب‏:‏ هنية، قال‏:‏ وهو الأكثر فى كلامهم؛ لأنهم يؤقتون هذا الحد، فيقولون‏:‏ مضت برهة من الدهر وحقبة، قال الفسوى‏:‏ وقد يجوز أن يكون هنيهة، والأجود هنيّةً، فأما هنيئة فبالهمز‏.‏

باب رَفْعِ الْبَصَرِ إِلَى الإمَامِ فِي الصَّلاةِ

وَقَالَتْ عَائِشَةُ‏:‏ قَالَ رسول الله فِي صَلاةِ الْكُسُوفِ‏:‏ ‏(‏فَرَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ‏)‏‏.‏

- فيه‏:‏ خَبَّابٍ‏:‏ ‏(‏كَنَا نعرف قراءة رَسُولُ اللَّهِ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِاضْطِرَابِ لِحْيَتِهِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ الْبَرَاءُ‏:‏ ‏(‏أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا صَلَّوْا مَعَ الرسول، فَرَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، قَامُوا قِيَامًا، حَتَّى يَرَوْنَهُ قَدْ سَجَدَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ فَصَلَّى، فقَلُنا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا فِي مَقَامِكَ، ثُمَّ رَأَيْنَاكَ تَكَعْكَعْتَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏رَأَيتُ الْجَنَّةَ، فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا، وَلَوْ أَخَذْتُهُ لأكَلْتُ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا‏)‏‏.‏

اختلف العلماء أى موضع ينظر المصلى فى صلاته، فقال الكوفيون، والشافعى، وإسحاق، وأبو ثور‏:‏ ينظر إلى موضع سجوده‏.‏

وروى ذلك عن إبراهيم، وابن سيرين، وقال الشافعى‏:‏ هو أقرب إلى الخشوع، وقال مالك‏:‏ ينظر إلى إمامه وليس عليه أن ينظر إلى موضع سجوده وهو قائم، ولا يحد فى موضع نظره حدًا، وأحاديث هذا الباب حجة لمالك‏.‏

قال المهلب‏:‏ لأنهم لو لم ينظروا إليه عليه السلام، ما رأوا تأخره حين عرضت عليه جهنم، ولا رأوا اضطراب لحيته، ولا استدلوا بذلك على قراءته، ولا نقلوا ذلك، ولا رأوا تناوله ما تناول فى قبلته حين مثلت له الجنة، ومثل هذا الحديث قوله‏:‏ ‏(‏إنما جعل الإمام ليؤتم به‏)‏؛ لأن الائتمام به لا يكون إلا بمراعاة حركاته فى خفضه ورفعه‏.‏

قال غيره‏:‏ وإنما لم يأخذ العنقود، والله أعلم، لأنه كان من طعام الجنة، وطعام الجنة لا يفنى، ولا يجوز أن يؤكل فى الدنيا إلا ما يفنى؛ لأن الله خلقها للفناء، فلا يكون فيها شىء من أمور البقاء‏.‏

باب رَفْعِ الْبَصَرِ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلاةِ

- فيه‏:‏ أَنَسَ‏:‏ قَالَ رسول الله‏:‏ ‏(‏مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلاتِهِمْ، فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، حَتَّى قَالَ‏:‏ لَيَنْتَهِيَنَّ عَنْ ذَلِكَ، أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ‏)‏‏.‏

العلماء مجمعون على القول بهذا الحديث وعلى كراهية النظر إلى السماء فى الصلاة، وقال ابن سيرين‏:‏ كان رسول الله مما ينظر إلى السماء فى الصلاة، فيرفع بصره حتى نزلت آية إن لم تكن هذه فما أدرى ما هى‏:‏ ‏(‏الذين هم فى صلاتهم خاشعون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 2‏]‏، قال‏:‏ فوضع النبى رأسه‏.‏

وقال شريح لرجل رآه رفع بصره ويده إلى السماء‏:‏ اكفف يدك واخفض بصرك، فإنك لن تراه، ولن تناله‏.‏

وذكر الطبرى عن إبراهيم التيمى أنه قال‏:‏ كان يكره أن يرفع الرجل بصره إلى السماء فى الدعاء، يعنى‏:‏ فى غير الصلاة‏.‏

باب الالْتِفَاتِ فِي الصَّلاةِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ قَالَتْ‏:‏ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ عَنِ الالْتِفَاتِ فِي الصَّلاةِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏هُوَ اخْتِلاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلاةِ الْعَبْدِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ أَنَّ نَّبِيَّ الله صَلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلامٌ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏شَغَلَتْنِي أَعْلامُ هَذِهِ، اذْهَبُوا بِهَا إِلَى أَبِي جَهْمٍ، وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةٍ‏)‏‏.‏

الالتفات فى الصلاة مكروه عند العلماء، وذلك أنه إذا أوما ببصره وثنى عنقه يمينًا وشمالاً ترك الإقبال على صلاته، ومن فعل ذلك فقد فارق الخشوع المأمور به فى الصلاة، ولذلك جعله النبى اختلاسًا للشيطان من الصلاة، وأما إذا التفت لأمرٍ يَعِنُّ له من أمر الصلاة أو غيرها فمباح له ذلك وليس من الشيطان، والله أعلم‏.‏

وقال المهلب‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد‏)‏، هو حض على إحضار المصلى ذهنه ونيته لمناجاة ربه، ولا يشتغل بأمر دنياه، وذلك أن العبد لا يستطيع أن يخلص صلاته من الفكر فى أمور دنياه؛ لأن الرسول قد أخبر أن الشيطان يأتى إليه فى صلاته، فيقول له‏:‏ اذكر كذا اذكر كذا؛ لأن موكل به فى ذلك، وقد قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏من صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له‏)‏، وهذا لمغالبته الإنسان، فمن جاهد شيطانه ونفسه وجبت له الجنة، وقد نظر عليه السلام، إلى أعلام الخميصة وقال‏:‏ ‏(‏إنها شغلتنى‏)‏، فهذا مما لا يستطاع على دفعه فى الأعم، وقد اختلف السلف فى ذلك فممن كان لا يلتفت فى الصلاة أبو بكر وعمر، وقال ابن مسعود‏:‏ إن الله لا يزال مقبلاً على العبد ما دام فى صلاته ما لم يحدث أو يلتفت‏.‏

ونهى عنه أبو الدرداء، وأبو هريرة، وقال عمرو بن دينار‏:‏ رأيت ابن الزبير يصلى فى الحجر، فجاءه حجر قدامه فذهب بطرف ثوبه، فما التفت‏.‏

وقال ابن أبى مليكة‏:‏ إن ابن الزبير كان يصلى بالناس، فدخل سيل فى المسجد فما أنكر الناس من صلاته شيئًا حتى فرغ منها‏.‏

وقال الحكم‏:‏ من تأمل من يمينه أو شماله فى الصلاة حتى يعرفه فليست له صلاة، وقال أبو ثور‏:‏ إن التفت ببدنه كله أفسد صلاته‏.‏

وقال الحسن البصرى‏:‏ إذا استدبر الرجل القبلة استقبل صلاته، وإن التفت عن يمينه أو شماله مضى فى الصلاة‏.‏

ورخصت فيه طائفة، فقال ابن سيرين‏:‏ رأيت أنس بن مالك يشرف إلى الشىء فى صلاته ينظر إليه‏.‏

وقال معاوية بن قرة‏:‏ قيل لابن عمر‏:‏ إن ابن الزبير إذا قام فى الصلاة لم يتحرك ولم يلتفت فقال‏:‏ لكنا نتحرك ونلتفت، وكان إبراهيم يلحظ يمينًا وشمالاً، وكان ابن معقل يفعله‏.‏

وقال عطاء‏:‏ الالتفات لا يقطع الصلاة، وهو قول مالك، والكوفيين، والأوزاعى‏.‏

وقال ابن القاسم‏:‏ وإن التفت بجميع جسده لا يقطع الصلاة‏.‏

والحجة لنا أن نبى الله لم يأمر منه بالإعادة حين أخبر أنه اختلاس من الشيطان، ولو وجبت فيه الإعادة لأمرنا بها؛ لأنه بعث معلمًا، كما أمر الأعرابى بالإعادة مرة بعد أخرى‏.‏

باب هَلْ يَلْتَفِتُ لأمْرٍ يَنْزِلُ بِهِ أَوْ يَرَى شَيْئًا أَوْ بُزَاقًا فِي الْقِبْلَةِ

وَقَالَ سَهْلٌ‏:‏ الْتَفَتَ أَبُو بَكْرٍ، فَرَأَى النَّبِيَّ عليه السلام‏.‏

- فيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ‏:‏ رَأَى رسول الله نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ يُصَلِّي بَيْنَ يَدَيِ النَّاسِ، فَحَتَّهَا، ثُمَّ قَالَ حِينَ انْصَرَفَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ أَحَدَكُمْ، إِذَا كَانَ فِي الصَّلاةِ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ، فَلا يَتَنَخَّمَنَّ أَحَدكم قِبَلَ وَجْهِهِ فِي الصَّلاةِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَسُ‏:‏ ‏(‏بَيْنَمَا الْمُسْلِمُونَ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ لَمْ يَفْجَأْهُمْ إِلا رَسُولُ اللَّهِ كَشَفَ سِتْرَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ، وَهُمْ صُفُوفٌ، فَتَبَسَّمَ يَضْحَكُ، وَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْهِ، لِيَصِلَ لَهُ الصَّفَّ، فَظَنَّ أَنَّهُ يُرِيدُ الْخُرُوجَ، وَهَمَّ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَفْتَتِنُوا فِي الصَلاة، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ، أَتِمُّوا صَلاتَكُمْ، وَأَرْخَى السِّتْرَ، وَتُوُفِّيَ مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ صلى الله عليه وسلم‏)‏‏.‏

الالتفات فيما ينوب المصلى ويحتاج إليه إذا كان خفيفًا لا يضر الصلاة عند العلماء، وقد قال النخعى‏:‏ إذا دخل على الإمام السهو، فليلمح من خلفه ولينظر ما يصنع‏.‏

وموضع الترجمة من حديث أنس هو أنهم التفتوا إليه عليه السلام، حين كشف الستر ونظر إليهم فى الصلاة، والدليل على التفاتهم إليه قول أنس‏:‏ فأشار إليهم أن أتموا صلاتكم، ولولا التفاتهم إليه ما رأوا إشارته‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفى حديث ابن عمر أن النبى، عليه السلام، حَتَّ النخامة فى الصلاة، وتكلم بعد الصلاة، وقد يأتى فى بعض الطرق ما يدل على أنه حَتَّها بعد انقضاء الصلاة، وكيف كان فإنه عمل يسير يجوز فى الصلاة وهو كبزاقه فى ثوبه فى الصلاة، ورد بعضه على بعض، وكإباحته البصاق تحت قدمه وحكه، وهو كله متقارب، قال المهلب‏:‏ وقد أخبر عليه السلام، بمعنى كراهية التنخم قِبَلَ الوجه وهو أن الله قبل وجهه، فوجب أن يكون التنخم قبل الوجه سُوء أدبٍ‏.‏

باب وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ لِلإمَامِ وَالْمَأْمُومِ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا، فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَمَا يُجْهَرُ فِيهَا بِالِقرَاءَةِ وَمَا يُخَافَتُ

- فيه‏:‏ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ‏:‏ شَكَا أَهْلُ الْكُوفَةِ سَعْدًا إِلَى عُمَرَ فَعَزَلَهُ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّارًا، فَشَكَوْا، حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّهُ لا يُحْسِنُ يُصَلِّي، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَقَالَ‏:‏ يَا أَبَا إِسْحَاقَ، إِنَّ هَؤُلاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ لا تُحْسِنُ تُصَلِّي، فقَالَ‏:‏ أَمَّا أَنَا وَاللَّهِ، فَإِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ صَلاةَ رَسُولِ اللَّهِ مَا أَخْرِمُ عَنْهَا، أُصَلِّي صَلاةَ الْعِشَاءِ، فَأَرْكُدُ فِي الأولَيَيْنِ، وَأُخِفف فِي الأخْرَيَيْنِ، قَالَ‏:‏ ذَلكَ الظَّنُّ بِكَ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ رَجُلا أَوْ رِجَالا إِلَى الْكُوفَةِ، يَسَأَلَ عَنْهُ، فَلَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا إِلا سَأَلَ عَنْهُ، وَيُثْنُونَ مَعْرُوفًا حَتَّى دَخَلَ مَسْجِدًا لِبَنِي عَبْسٍ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ‏:‏ أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ، يُكْنَى أَبَا سَعْدَةَ، فقَالَ‏:‏ أَمَّا إِذْ نَشَدْتَنَا، فَإِنَّ سَعْدًا كَانَ لا يَسِيرُ بِالسَّرِيَّةِ، وَلا يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلا يَعْدِلُ فِي الْقَضِيَّةِ، فقَالَ سَعْدٌ‏:‏ أَمَا وَاللَّهِ لأدْعُوَنَّ بِثَلاثٍ‏:‏ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا، قَامَ مقام رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَأَطِلْ عُمْرَهُ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ لِلْفِتَنِ، وَكَانَ بَعْدُ إِذَا سُئِلَ يَقُولُ‏:‏ شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ، أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ‏.‏

قَالَ عَبْدُالْمَلِكِ بن عمير‏:‏ فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ قَدْ سَقَطَت حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنَ الْكِبَرِ، وَإِنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي فِي الطُّرُقِ فيَغْمِزُهُنَّ‏.‏

- وفيه‏:‏ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قال‏:‏ قَالَ رَسُولَ اللَّهِ‏:‏ ‏(‏لا صَلاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَدَخَلَ رَجُلٌ، فَصَلَّى، فَسَلَّمَ عَلَى الرسول فَرَدَّه، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏ارْجِعْ، فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ‏)‏، قالها‏:‏ ثلاثًا، ثم قَالَ‏:‏ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ، فَعَلِّمْنِي، فَقَالَ‏:‏ إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاةِ، فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ‏.‏‏.‏‏.‏، الحديث‏.‏

اختلف العلماء فى وجوب القراءة فى الصلاة فقال مالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وجمهور الفقهاء‏:‏ قراءة فاتحة الكتاب للإمام والمنفرد واجبة لا تجزئ الصلاة إلا بها‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ الواجب فى القراءة فى الصلاة ما تناوله اسم القرآن، وذلك ثلاث آيات قصار أو آية طويلة كآية الدَّيْن، من أى سورة شاء، واحتج بقوله عليه السلام للذى رده ثلاثًا‏:‏ ‏(‏اقرأ ما تيسر معك من القرآن‏)‏، قال‏:‏ ولم يخص سورة من غيرها، فإذا قرأ ما تيسر عليه فقد فعل الواجب، وقال أصحابه‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏لا صلاة لمن يقرأ بفاتحة الكتاب‏)‏، معناه‏:‏ لا صلاة كاملة، كقوله‏:‏ ‏(‏لا صلاة لجار المسجد إلا فى المسجد‏)‏؛ لإجماعهم أن صلاته جائزة فى داره أو حيث صلاها، فنفى عنه الكمال، فكذلك هاهنا‏.‏

قالوا‏:‏ وحديث عبادة ليس على العموم؛ لأن المأموم لا تجب عليه قراءة فيما جهر فيه الإمام عند مخالفنا، ويحملها الإمام عنه فيما أسرّ فيه إذا نسيها المأموم‏.‏

وحجة من أوجبها قوله‏:‏ ‏(‏لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب‏)‏، فنفى أن تكون صلاة لمن لم يقرأ بها فهو على ظاهره إلا ما خصته الدلالة‏.‏

وأما قوله عليه السلام للذى رده ثلاثًا‏:‏ ‏(‏اقرأ ما تيسر معك من القرآن‏)‏، فهو مجمل، وحديث عبادة مفسر، والمفسر قاض على المجمل، فكأنه قال‏:‏ اقرأ ما تيسر معك من القرآن، أى‏:‏ اقرأ فاتحة الكتاب التى قد أعلمت أنه لا صلاة إلا بها فهى ما تيسر من القرآن‏.‏

واختلفوا فى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب‏)‏، إن كان على العموم أو الخصوص، فقالت طائفة‏:‏ هو على العموم، ويجب على المرء فى كل ركعة قراءة فاتحة الكتاب صلاها منفردًا أو مأمومًا، أو إمامًا فيما يجهر فيه الإمام أو يسر، هذا مذهب الأوزاعى، والشافعى، وأبو ثور، وإلى هذا أشار البخارى فى قوله‏:‏ وجوب القراءة للإمام والمأموم‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب‏)‏، على العموم إلا أن يصلى خلف الإمام فيما يجهر فيه الإمام ويسمع قراءته، فإنه لا يقرأ لقوله‏:‏ ‏(‏وإذا قُرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 204‏]‏، ولا يختلف أهل التأويل أن المراد بهذه الآية سماع القرآن فى الصلاة، ومعلوم أن هذا لا يكون إلا فى صلاة الجهر؛ لأن السر لا يستمع إليه ولقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا‏)‏، وقد صححه أحمد بن حنبل، هذا قول مالك، وأحمد، وإسحاق‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب‏)‏، على الخصوص، وإنما خوطب بذلك من صلى وحده، فأما من صلى مع الإمام فليس عليه أن يقرأ لا فيما جهر ولا فيما أسرّ، هذا قول الثورى، والكوفيين‏.‏

واختلفوا أيضًا هل القراءة واجبة فى الصلاة كلها أو فى بعضها، فقال مالك‏:‏ من ترك القراءة فى ركعة من الصبح أو فى ركعتين أو أكثر من سائر الصلوات أعاد الصلاة وتجزئه فى ترك القراءة فى ركعة من غير الصبح سجدتا السهو قبل السلام‏.‏

وقال ابن الماجشون‏:‏ من ترك القراءة من ركعة من الصبح أو أى صلاة كانت تجزئه سجدتا السهو‏.‏

وقال ابن أبى زيد‏:‏ روى عن المغيرة فيمن لم يقرأ فى الظهر إلا فى ركعة منها تجزئه سجدتا السهو قبل السلام‏.‏

وقال الشافعى، وجماعة، وأحمد‏:‏ القراءة واجبة على الإمام والمنفرد فى كل ركعة، والشافعى يقول ذلك فى المأموم أيضًا‏.‏

وقال أبو حنيفة، والثورى‏:‏ القراءة واجبة فى ركعتين من الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة، وليس واجبة فى باقيها، واحتجوا بأن القراءة لو كانت واجبة فى الأخريين لكان عليه أن يجمع بين فاتحة الكتاب وسورة معها كالأوليين‏.‏

والحجة عليهم قوله‏:‏ ‏(‏لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب‏)‏، فهو على عمومه إلا ما قامت عليه الدلالة، ولما كانت الركعة الواحدة صلاة بإجماع أن الوتر ركعة وهى صلاة، دل أن القراءة واجبة فى كل ركعة بفاتحة الكتاب، وأيضًا قول جابر‏:‏ كل ركعة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فلم تصل إلا وراء إمام‏.‏

وأما ذكر حديث سعد فى هذا الباب فوجهه أنه لما قال‏:‏ أركد فى الأوليين وأخفف فى الأخريين علم أنه أراد‏:‏ أطيل القراءة فى الأوليين وأقصرها فى الأخريين؛ لأنه لا خلاف بين الأمة فى وجوب القراءة فى الركعتين الأوليين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏أركد‏)‏، أى‏:‏ أديم القيام وأثبت فيها، والركود‏:‏ الثبوت والدوام عند أهل اللغة، ومنه نهيه عن البول فى الماء الراكد، أى‏:‏ الدائم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏أحذف فى الأخريين‏)‏، أى‏:‏ أقصرهما، وأصل الحذف من الشىء النقص منه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لا أخرم عنها‏)‏، أى‏:‏ لا أنقص صلاتى من صلاة رسول الله، وأصل الخرم‏:‏ قطع بعض وترة الأنف، يقال إذا قطع ذلك من الرجل‏:‏ أخرم، والمرأة‏:‏ خرماء، ثم يستعمل ذلك فى كل منتقص منه‏.‏

وفى حديث سعد من الفقه‏:‏ أنه من شُكى به من الولاة أنه يسأل عنه الإمام فى موضع عمله أهل الفضل منهم، ألا ترى أن عمر إنما كان يسأل عنه فى المساجد عمارها وأهل ملازمة الصلاة فيها‏.‏

وفيه‏:‏ أن الوالى إذا شكى به أنه يعزل إذا رأى ذلك الإمام صلاحًا له، ولمن شكا به وإن كذب عليه فى الشكاية؛ لأن سعدًا أثنى عليه أهل الكوفة خيرًا غير شيخ منهم، فعزله عمر ورأى ذلك صلاحًا للرعية والسياسة لها، لئلا يبقى عليهم أمير وفيهم من يكرهه، فيتعذب الكاره والمكروه، وربما يؤدى ذلك إلى ما تسوء عاقبته، وقول عمر لسعد‏:‏ ‏(‏ذلك الظن بك‏)‏، يدل أنه لم يقبل قول الشاكى عليه، وقد صرح بذلك عمر حين طعنه العلج فقيل له‏:‏ أوص يا أمير المؤمنين، فقال لهم‏:‏ ما أحد أحق بهذا الأمر من النفر الذين توفى رسول الله وهو عنهم راض، فسماهم ثم قال‏:‏ إن أدركت الإمارة سعدًا فهو ذاك وإلا فليستعن به أيكم ما أُمِّر، فإنى لم أعزله عن عجز ولا خيانة، ذكره البخارى فى باب مناقب عثمان، رضى الله عنه‏.‏

روى الطبرى عن سعد أن الرسول دخل عليه يعوده فى مرضه بمكة، فرقاه وقال‏:‏ ‏(‏اللهم أصح جسمه وقلبه واكشف سقمه، وأجب دعوته‏)‏‏.‏